
تحوُّلٌ قاسٍ: كيف ابتلع الإسمنت “سلة غذاء فلسطين”؟ يُزاح الستار عن قصة مؤلمة لقرية فلسطينية كانت تُعرف بأنها “سلة غذاء فلسطين”، لتتحول اليوم إلى وجهة للمرفهين ومشاريعهم الاستثمارية. في هذا التحقيق، نرصد كيف ابتلعت الفوضى العمرانية أخصب أراضي قرية النصارية شرق نابلس، مهددة الأمن الغذائي ومستقبل المزارعين، وخاصة النساء، اللواتي فقدن استقلالهن الاقتصادي مع كل جدار أسمنتي يُقام، في ظل غياب الرقابة وضعف القوانين.
تقع النصارية، على بُعد 14 كيلومتراً شرق نابلس، في قلب سهول محاطة بقمم جبلية، وتُعد من أخصب الأراضي في الضفة الغربية. منذ عام 1948، حمل لاجئون فلسطينيون، معظمهم من يافا وبئر السبع، حلم الاكتفاء الذاتي، وزرعوا فيها الخيار، والبطاطا، والقمح، والخضروات.
كانت المزارعة لينا اطريق (44 عاماً)، تستيقظ مع الفجر لتزرع أرضها وتعيش بكرامة. لكن اليوم، المشهد تغير تماماً: “الأرض لم تعد تلك الأرض التي كانت تزرعها وتنتج منها كما كانت، وقد غطاها الإسمنت، وامتد البناء على حساب الأرض الخصبة؛ فالناس حين ضاقت بهم المدن، اتجهوا نحو القرى، لا إلى الجبال، وإلى الأراضي الزراعية القريبة من الشوارع والخدمات، وهكذا بدأت معاناة المزارعين”.
توضح لينا أن هذا التحول لم يؤثر على الأرض فحسب، بل على النساء بشكل خاص. فقدت كثير منهن عملهن واستقلالهن، “بعضهن لم يكن لهن رأي في بيع الأرض ومنهن من اضطررن للبيع، فذهبت الأرض ولم يأت بديل يعوض الخسارة، وبعض العائلات هاجرت، وأخرى استثمرت في مشاريع تجارية غيرت من استقلالهن”.
وتضيف أن القرية شهدت دخول “عادات غريبة وسلوكيات دخيلة” مع انتشار الشاليهات والمناسبات الصاخبة، وتراجع الأمان في الشوارع، ما أثر على قدرة الأطفال على اللعب بحرية، والأمهات على حماية بيئتهن. وتعدد اطريق التحديات التي تواجه نساء القرية، منها تقليص الأراضي الزراعية، وفقدان مصدر الرزق، وعدم قدرة النساء على اتخاذ قرار بيع الأرض، واستغلال حاجة المزارعين عبر شراء أراضيهم بأسعار مغرية. حتى إن بعضهن “خجلوا يشتغلوا بالأرض قدام سكان جدد، وبعضهم اضطروا يطلعوا يشتغلوا بغير قرى أو حتى يروحوا على مستعمرات التمر الإسرائيلية عشان يوفّروا لقمة العيش، ساعات على الحواجز، إهانة وقهر، وكل هاد عشان نعيش بعد ما خسرنا أرضنا”.

الحال لا يختلف كثيراً بالنسبة لسندس العجوري (35 عاماً)، أم لثلاثة أطفال، كانت تزرع البطاطا والخيار، لكنها تقول: “كنت منتجة بعملي وأعيل بيتي بكرامة، لكن الزحف العمراني خنق القرى، والأراضي الزراعية بلّشت تختفي. مع كل بيت جديد ينبنى، كانت قطعة أرض تروح. وقتها، ما ضاع بس التراب… ضاعت كمان فرص الشغل، ضاعت مصادر الرزق”. وتؤكد سندس أن النساء أصبحن يعتمدن بشكل كامل على أزواجهن، ما يضاعف العبء عليهم في حال غياب العمل.
تؤكد بيانات موقع “geomolg.ps” التابع لوزارة الحكم المحلي ووثائق وزارة الزراعة أن النصارية من أعلى المناطق تصنيفاً زراعياً شرق نابلس، ما يجعل خسارة أراضيها تهديداً حقيقياً للأمن الغذائي في الضفة الغربية.
تدمير الموارد الطبيعية وتداعياتها الاجتماعية

مشهد الجرافات التي تلتهم أطراف المزارع أصبح أمراً مألوفاً للمزارع حسن ملالحة (64 عاماً)، الذي هُجرت عائلته إلى النصارية منذ النكبة عام 1948. يرى حسن أن هذا الزحف العمراني يهدد رزقه
ويستنزف خصوبة الأرض، مؤكداً أن “الأرض التي كانت تسمى سلة غذاء فلسطين، لم تعد كذلك… الينابيع تلوثت بمياه الصرف الصحي، والناس زادوا، لكن الشبكات بقيت على حالها… والماء النظيف قد جف”.
يوافق خالد ملالحة (60 عاماً) على ذلك، ويضيف أن البناء المستمر “قضى على كل شيء” بما في ذلك التربة الغنية بالمعادن.
كما يشعر المزارع خالد خرانبة (65 عاماً) بمرارة، فبعد أن كان يزرع كل شيء، تقلصت أرضه إلى سبعة دونمات فقط. ويؤكد أن الزراعة لم تعد كما كانت، وأن التغيرات جلبت معها آفات اجتماعية مثل المخدرات والضوضاء الليلية، قائلاً: “الزراعة لم تعد كما كانت، فقد اندلعت مشاجرات بين المزارعين على ما تبقى من أراض للرعي، بعدما تحولت كلها إلى أسوار تعزل كل قطعة عن الأخرى، كل شخص أصبح عنده شاليه في النصارية، فخفخة وفشخرة، لكن على حساب مين؟”

ويدعم عامر علي اشتية، الذي انتقل للعمل في النصارية قبل عقود، هذا الرأي، قائلاً إن المشهد تغير كلياً، “أصبحنا نشتري المياه، والسماد، والأدوية، فيما كانت بالسابق بالمجان، ذلك بسبب أن الأراضي التي كانت زراعية تحولت إلى شاليهات ومراعي حيوانية”. ويقدّر اشتية عدد الشاليهات بـ 700 شاليه، أُقيمت جميعها على أراضٍ زراعية، مشيراً إلى أن الزراعة تخدم عدداً كبيراً من الأيدي العاملة، بينما الشاليه يخدم شخصاً واحداً فقط.
المجلس القروي يوضح ويحذر

يؤكد أحد أعضاء مجلس النصارية (أ. أ) أن القرية تحولت إلى “بيئة مضادة” لأهميتها الزراعية، حيث وصل عدد الشاليهات إلى 800 شاليه، بينما تجاوز عدد المباني السكنية 2500 مبنى، مما أدى إلى تحويل أكثر من 80% من الأراضي الزراعية إلى شاليهات وفلل. ويضيف أن المزارعين يواجهون ديوناً متراكمة وصعوبات في الحصول على التراخيص، رغم أن الكثير من هذه المشاريع تُقام دون تراخيص رسمية. ورغم ذلك، يشارك المجلس في تقديم خدمات المياه والكهرباء لهذه المشاريع، وهو ما يضعه في موقف حرج.
ويُقر رئيس مجلس قروي النصارية، سلمان ملالحة، بأن الزحف العمراني يعود إلى “إهمال وزارة الزراعة، وارتفاع أسعار الأدوية الزراعية، ونقص المياه”، مشيراً إلى أن مياه نبع الباذان، التي كانت عذبة، أصبحت ملوثة بمياه الصرف الصحي من نابلس.
كما يؤكد أن “جميع الشاليهات في النصارية غير مرخصة، ولا يوجد أصلاً تراخيص بناء في المنطقة”، وأن المجلس يكتفي بتقديم خدمات أساسية للسكان. وكشف ملالحة عن مخاطبات رسمية أرسلها المجلس إلى جهات عدة، لكن “لم يصل أي رد أو معالجة على الأرض”.
من جانبه، حذر مدير دائرة الزراعة في الأغوار الوسطى، المهندس أحمد عبد الوهاب سليمان، من التوسع غير المرخص، مؤكداً أن وزارة الزراعة ترفض تغيير تصنيف الأراضي عالية الخصوبة، وأن أي بناء عليها يعد مخالفة. ورغم أن سليمان يعزو التعديات إلى ظروف سياسية وأمنية، فإنه يؤكد أن “هذه الميزة الطبيعية مهددة بسبب التوسع العمراني ونقص المياه”.
محاولات التصحيح والتحديات القانونية

قال مدير الحكم المحلي في نابلس، سامر خماش، إن الوزارة تضع في اعتبارها ضرورة التخطيط التنظيمي، وأن العمل على الخرائط الهيكلية لا يزال جارياً. وأكد أن الوزارة تسعى إلى الحد من البناء العشوائي من خلال لجان تفتيش، مع التركيز على حماية الأراضي الزراعية. وأوضح أن “المعالجة القانونية لتصويب الأراضي ذات الخصوبة العالية تمثل خطاً أحمر”، وأن التعامل معها يجب أن يكون من خلال حلول تخطيطية وقانونية.
ورغم أن سلطة جودة البيئة في نابلس أكدت أن دورها يقتصر على استقبال الشكاوى المتعلقة بالقضايا البيئية مثل المياه العادمة والنفايات، فإنها أوضحت أن قضايا البناء ليست من اختصاصها المباشر، بل من اختصاص وزارة الحكم المحلي.
ويشير الخبير الزراعي ناصر الجراعي إلى أن الشاليهات، تستهلك كميات كبيرة من المياه التي كانت تُستخدم لري الأراضي الزراعية، وأن المياه تُباع للشاليهات بأسعار مضاعفة، مما يزيد من معاناة المزارعين.
القانون يصرخ… والواقع يتجاهل

وفقاً لقانون الزراعة رقم (2) لسنة 2003 وتعديلاته، يُمنع منعاً باتاً إقامة أي مبانٍ على الأراضي الزراعية عالية القيمة. أما الأراضي متوسطة القيمة، فيُسمح بإقامة منشآت لخدمة الإنتاج الزراعي فقط، بعد الحصول على التراخيص اللازمة. ويشترط القانون في الأراضي الزراعية، حتى غير المصنفة عالية القيمة، أن يُسمح ببناء واحد فقط لكل 5,000 متر مربع، على ألا تتجاوز مساحة البناء 180 متراً مربعاً. كما يعاقب القانون المخالفين بغرامات مالية قد تصل إلى الحبس.
ورغم هذه القوانين والتحذيرات، تظل المشكلة قائمة بفعل ضعف التطبيق الفعلي، وغياب الجدية في تنفيذ القرارات. وتعود القصة بنا إلى لينا اطريق، التي ترى أرضها تتحول إلى خرسانة، وتفقد مصدر رزقها. هذا الواقع يلخص أكثر من مجرد فقدان أرض زراعية، بل يعبر عن صراع مجتمع بأكمله بين إرث الأرض وواقع التغيير القسري.
فهل ستسمع أصوات مثل صوت لينا؟ وهل ستجد الأرض من يحميها قبل أن تُفقد نهائياً؟
_________________________________________________________________
إعداد التقرير: سامرعواد ، نديم علاوي
إشراف: فراس الطويل
هذا التقرير نتاج دورة تدريبية لمجموعة من الصحافيين/ات ضمن مشروع ” الوصول العادل للموارد الطبيعية للنساء والشباب ” الذي تنفذه جمعية تنمية وإعلام المرأة ( تام) بالشراكة مع كاريتاس فرنسا و بدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية الا ان الافكار والآراء المقدمة خلاله لا تمثل بالضرورة افكار واراء الوكالة الفرنسية للتنمية.