عندما تغيب الشمس عن بلدة إذنا، لا يحل الظلام وحده، بل تغطي البلدة سحب سوداء خانقة، تحمل في طياتها السموم والأمراض، وتنذر بكارثة بيئية وصحية لا تعرف حدوداً.

في شوارع البلدة، يمكنك أن ترى آثار هذه “الكارثة” في عيون الأطفال المصابين بأزمات تنفسية، وفي الحقول التي فقدت خضرتها، وحتى في أصوات السكان المنهكة من المطالبة بحل لهذه الأزمة التي بدأت قبل عقدين ولم يستطع أحد حلها حتى اليوم.

لم تكن إذنا يوماً مكباً للنفايات الإلكترونية، لكن السياسات غير المنظمة، والفقر، والبطالة، إضافة إلى الإهمال الرسمي، جعلت منها بؤرة لحرق الخردة القادمة من إسرائيل واستخراج المعادن بطرق بدائية ومدمرة للبيئة. ومع غياب الرقابة الفعالة ووجود الاحتلال الإسرائيلي الذي يسهل دخول هذه النفايات إلى الأراضي الفلسطينية، أصبحت هذه الظاهرة كابوساً يهدد البيئة والصحة العامة.

من قلب المعاناة

 تروي آمنة البطران، إحدى المتضررات، معاناة استمرت لعشرين عاماً قائلة: “نعيش وسط سموم ناتجة عن حرق النحاس، وأطفالي يدفعون الثمن. أحد أبنائي يعاني من شلل جزئي و تفاقم وضعه الصحي بسبب هذه السموم.”

وتضيف أن الوضع ازداد سوءاً خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، حيث أدى إغلاق البوابات من قبل الاحتلال وفصل القرى عن المدن إلى صعوبة نقل طفلها إلى المستشفى، مما فاقم معاناتها.

كانت آمنة ناشطة في حراك محلي لمجابهة ظاهرة حرق الخردة، وتعرضت لتهديدات بسبب دورها في الحراك بدعم من مؤسسة “تام”، التي نظمت ورشات عمل، وحملات ضغط، واجتماعات مع صناع القرار، حتى وصلت إلى تعيين محامٍ للدفاع عن المتضررين/ات بعد تعرضهم/ن  لتهديدات من أصحاب مصالح مرتبطين بحرق الخردة.

لم يتردد مدير مكتب سلطة جودة البيئة في الخليل، هاشم صلاح في وصف ظاهرة الحرق بأنها من أخطر المشكلات البيئية المستمرة منذ أكثر من 25 عاماً في منطقة إذنا وريف الخليل. ويشرح قائلاً: “عملية الحرق تهدف إلى استخراج النحاس من الكوابل، لكنها تؤدي إلى انبعاث مواد سامة تؤثر على الجهاز التنفسي وتسبب أمراضاً مزمنة، وحتى سرطانية.”

“مفاعل نووي صغير”

لا تقتصر تأثيرات حرق النفايات الإلكترونية على صحة الإنسان فحسب، بل تمتد لتشمل التربة والمياه والزراعة.

كل يوم، تُحرق عشرات الأطنان من الكوابل النحاسية في إذنا، مخلفة وراءها غيمة سوداء تخنق البلدة. رئيس البلدية، جابر الطميزي، وصف الوضع قائلاً: “ما يحدث هنا أشبه بمفاعل نووي صغير. الغيمة السوداء التي تغطي البلدة تنزل إلى الأرض وتلوث التربة والمياه والهواء، مما يقتل كل مظاهر الحياة.” وأكد الطميزي أن 80% من الآبار الارتوازية في البلدة تلوثت تماماً، وأصبحت مياهها رمادية اللون وغير صالحة للاستخدام البشري.

 أما المواطن مشهور البطران، أحد سكان البلدة المتضررين فيصف الوضع: “بلدة إذنا لم تعد فقط مكباً للنفايات الإلكترونية المحلية، بل أصبحت وجهة للنفايات الإسرائيلية أيضاً. بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر (بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة)، ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية، لجأ العديد من العمال الذين فقدوا وظائفهم داخل الخط الأخضر إلى حرق النفايات كوسيلة للرزق، مما فاقم الكارثة.”

بدوره يرى المحامي والمستشار القانوني أمير اخلاوي أن بلدة إذنا أصبحت رمزاً لمعاناة تتجاوز الصحة العامة “تمتد آثار هذه الظاهرة إلى الزراعة والتربة والمياه. السكان المحليون يبذلون جهوداً جبارة لمحاربتها عبر القنوات القانونية الاجتماعية، لكن التأثيرات البيئية والصحية تبقى كارثية.” ويشير إلى أن عدد القضايا المتعلقة بحرق النفايات الإلكترونية في المحاكم في تزايد مستمر، مما يعكس حجم الأزمة المستفحلة.

وفيما يتعلق بالضرر على القطاع الزراعي، يقول الناشط المجتمعي سامر البطران إن إذنا كانت تُعرف بـ “سلة غذاء” للبلدة والمناطق المحيطة، لكن الآن، بسبب التلوث، أصبحت الأراضي الزراعية شبه مهجورة. آلاف الدونمات على طول الخط الغربي تُركت، وأصبحت الزراعة والحيوانات البرية من الماضي، وفق قوله.

دور الاحتلال الإسرائيلي

لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بحرمان الفلسطينيين/ات من بيئة نظيفة، بل يستغل الوضع لتحويل أراضيهم إلى مكبات مفتوحة للنفايات الإسرائيلية، في تجاهل واضح للقوانين البيئية الدولية. ويتم ذلك عبر وسطاء فلسطينيين يسهلون عمليات إدخال هذه النفايات لحرقها في الأرض الفلسطينية وتحمل كل الأضرار الناتجة عنها، ثم إعادة تصدير النحاس النظيف إلى إسرائيل مقابل أرباح مادية، يمكن اعتبارها بمثابة “فتات” بالنظر إلى الضرر على السكان والصحة العامة والبيئة. 

ويرى المحامي أمير اخلاوي أنه “لا يمكن النظر إلى هذه الأزمة بمعزل عن الاحتلال الذي يلعب دوراً أساسياً في استمرار هذه الظاهرة، حيث تُستخدم مناطق  (C) كمكبات للنفايات الإسرائيلية، ما يجعل السيطرة عليها شبه مستحيلة دون تنسيق أمني.”

“طفلتي تسعل دماً”

الطفلة آسيا فرج الله، التي لا يتجاوز عمرها 10 سنوات، تحمل في رئتيها دليلاً حياً على أثر حرق الخردة. تقول والدتها: “رائحة الدخان أصبحت تقتلنا ببطء. في أحد الأيام، عندما عدنا إلى المنزل، شعرت ابنتي بضيق شديد في التنفس واصبحت تسعل دماً ومنذ ذلك الوقت بدأت معاناتنا بين المستشفيات للعلاج.” وتضيف: “لا نستطيع فتح النوافذ أو نشر الملابس بسبب كثافة الدخان ، اوالجلوس في شرفة المنزل. حتى الهواء الذي نتنفسه أصبح عدواً لنا.”

تحديات

يشير رئيس البلدية جابر الطميزي إلى أن القوانين قاصرة عن محاسبة المتسببين، إذ يكتفي القضاء بفرض غرامة قدرها 20 دينارًا فقط على المخالفين، ما يشجع على استمرار الظاهرة بدلًا من ردعها.

ويتفق عبد الحافظ كنعان، مدير دائرة الصحة والبيئة في محافظة الخليل، مع رئيس البلدية في جزئية ضعف القوانين “التي لم تعد كافية للتصدي لهذه الظاهرة.” وعن دور المحافظة، يوضح كنعان أنه يقتصر على التنسيق بين الجهات المعنية، مثل سلطة جودة البيئة والضابطة الجمركية، لمكافحة هذه الظاهرة.

 ورغم تنفيذ مشاريع أجنبية لشراء ماكينات تقشير الأسلاك بدلًا من حرقها، إلا أن هذه الحلول لم تكن كافية بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل للتجار، وفق كنعان.

وعن دور سلطة جودة البيئة، يقول هاشم صلاح: “نتعاون مع البلديات والجهات الأمنية لضبط المخالفين، لكننا نواجه تحديات كبيرة، أبرزها صعوبة الوصول إلى أماكن الحرق التي غالبًا ما تكون قريبة من الجدار الأمني أو في مناطق (C) بالإضافة إلى أن الحرق يتم ليلاً مما يزيد من صعوبة الضبط .”

الحاجة إلى حلول جذرية ومستدامة

وفق محافظة الخليل، فإن الجهود الحكومية والمجتمعية منذ عام 2013 نجحت في تقليل نسبة انتشار ظاهرة حرق الخردة من  95 إلى 25 بالمئة، ولكن لا يزال هناك تحديات كبيرة، خصوصًا مع استمرار الحرق ليلاً في أماكن يصعب الوصول إليها من قبل الجهات المختصة.

وبينما يستمر الحرق ويزداد الضرر البيئي والصحي، يبقى السؤال: متى ستنتهي ظاهرة حرق الخردة نهائياً؟ أم أن بلدة إذنا والقرى المجاورة ستظل تدفع ثمن إهمال السلطات وتقاعس القوانين؟

إعداد التقرير: ساري جرادات

                 رفيدة أبو زنيد

                 يونس جعافرة

                محمود أبو زهيرة

إشراف: فراس الطويل

هذا التقرير نتاج دورة تدريبية لمجموعة من الصحافيين/ات ضمن مشروع ” الوصول العادل للموارد الطبيعية للنساء والشباب ” الذي تنفذه جمعية تنمية وإعلام المرأة ( تام) بالشراكة مع كاريتاس فرنسا و بدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية الا ان الافكار والآراء المقدمة خلاله لا تمثل بالضرورة افكار واراء الوكالة الفرنسية للتنمية.