في ديسمبر من العام 2014 حزمت فلورا حقائبها التي وضعت فيها كل ما يلزمها في سفرها لإكمال دراستها الجامعية في الجزائر وكما حملت لوازم سفرها حملت الكثير من الأحلام معها، متحدية كافة الانتقادات التي طالتها من محيطها، حاولوا إحباطها لكنها كانت أقوى من عادات مجتمعنا التي ترفض سفر الفتاة لوحدها لأي سبب كان.

فلورا هدهد، ابنة السادسة والعشرين ربيعًا، من محافظة جنين، والتي حصلت على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية وشهادة الماجستير في الإنشاء من جامعة الدكتور يحيى فارس في الجزائر.
تقول فلورا:” منذ صغري اكتشفت والدتي موهبة الرسم لدي وحاوَلت جاهدة مساعدتي في تطوير هذه الموهبة وتوفير كل ما يلزم من معدات الرسم، وعندما انهيت الثانوية العامة تفاجأ الجميع من قراري بالسفر إلى الجزائر لدراسة الهندسة، انتقادات المحيطين لم تؤثر عليّ، واجهت الرفض في بداية الأمر من عائلتي إلا أنني تمكنت من إقناعهم فلطالما كانوا مصدر الدعم لي، ومنحوني الثقة المطلقة بأني قادرة على أن أكون ما أريد”.
يردف والد فلورا:” لم تكن موافقتي بالشيء الهين، أن اتخذ الموافقة كان أمرًا صعبًا ولكن الرفض كان أكثر صعوبة، أنا الذي اعتدت ألا أرفض طلبًا لوحيدتي من الإناث، لم آبه لكلام الناس ولكني كنت قلقًا عليها”.
وتضيف بابتسامة:” في أول سنتين من دراستي الجامعية كانت لهجة الانتقادات لي شديدة وبعدها أصبحت تخف، وصاروا أكثر تقبلًا، لم يكن الانتقاد لسفري فقط وإنما لتخصصي الجامعي حيث يرى من حولي أنه تخصص ملائم للذكور، وفي كل مرة يسأل أحد عن تخصصي أرى الصدمة وعلامات الاستفهام على وجهه، تلك الانتقادات كانت بمثابة محفز لي لاجتهد في دراستي وأتفوق “
وتتابع فلورا:” أحب الرسم وأحب هذه الموهبة التي وضعها الله داخلي، فقد كنت أجد فيها متنفسًا من كل الضغوط التي تحاصرني، لأني حاولت كثيرًا مواجهة الانتقادات ولكنِّي لم أفلح بإقناعهم أن ما أفعله طالما لا يتنافى مع الدين أين المشكلة، فكان الرد الدائم والمتوقع بأنه يتنافى مع العادات والتقاليد”.
بعد إنهائها لدراستها الجامعية استطاعت فلورا أن تحصل على وظيفة وأثبتت نفسها في عملها، كمهندسة مدنية مشرفة على مشاريع البناء، وكان يقع على عاتقها دراسة وتصميم المشاريع والبنى التحتية وشبكات المياه والتصريف الصحي، ولم تآبه لنظرات الانتقاد من المهندسين والعمال وكانوا وكأنهم يشعرون بالإهانة حيث كان الجميع يراهن على أنها لن تصمد طويلا في العمل، بحجة أنها لا تحتمل النزول إلى موقع البناء.
بعد وقت قصير من حصولها على الوظيفة تفشت جائحة كورونا وكان العمل يسوء أكثر فأكثر وانتهى بها المطاف بلا وظيفة ولا عمل فكان لا بد منها إلا أن تبحث عن طريقة توفر لها مصدر دخل وتملأ وقت فراغها فاستغلت موهبتها وافتتحت مشروعًا خاصًا بالرسم وكانت قادرة أن تنجح بكل جدارة.
في زاوية غرفتها وبكل شغف وحب تعكف فلورا هدهد على الرسم باستخدام القماش والورق فكانت معتادة أن تقدم لصديقاتها هدايا صنعتها بيدها، من إكسسوارات، ميداليات، فواصل كتب، مقالم ومحافظ لَوَّنَتها كما تحب، وصنعتها بكل الحب.
فاقترح المحيطون بها أن تفتتح مشروعًا خاصًا بها يضم منتجاتها، حيث كانت تستخدم مواد بسيطة في صناعة المنتجات ولكنها تنتجها بصورة جميلة بإجماع الكل، وامتازت منتجاتها بأنها صديقة للبيئة، فكانت تعتمد بشكل كبير في منتجاتها على الورق والقماش القابل للتحلل.
في بداية الأمر واجهتها مشكلة التسويق، فكانت المبيعات مقتصرة على الأقارب والجيران، لكنها قررت أن تنشىء صفحة على الفيسبوك، وفي فترة بسيطة استطاعت أن تنهض بمشروعها، وأصبحت تتلقى يوميًا طلبات على المنتجات، وبعد انتهاء جائحة كورونا قررت المشاركة في المعارض لتُعرف منتجاتها أكثر.
وتنهي فلورا:” أجد أنه من الطبيعي أن يكتشف المرء في نقطة ما من العمر أن الانتقادات ليس مهمة بقدر ما هو أثرها الإيجابي مهم، هذه هي الحياة سلسلة من الاكتشافات التي لا يجب أن يشعر معها المرء بخيبة أمل، إنما بالسعي.