
روائح كريهة، ومكاره صحية، وحشرات، وتربة ملوثة، وأمراض منتشرة، هذه هي الحياة اليومية التي يعيشها سكان قرية “أبو العسجا” جنوب الخليل. القرية التي يقطنها نحو 1200 نسمة، تواجه – منذ نحو عقدين- كارثة بيئية متفاقمة بفعل تدفق المياه العادمة من مستوطنات الاحتلال مثل “كريات أربع” و”خارصينا” و”عتنائيل”، إلى جانب المياه العادمة الناتجة عن استخدام السكان المحليين والمنشآت الصناعية في الخليل. هذه الأزمة تتسبب في تدهور الحياة البيئية والصحية والزراعية، وتحول القرية إلى منطقة موبوءة تنغص على سكانها العيش.
كابوس يومي
تعيش نهاية أحمد أبو سندس، وهي إحدى سكان القرية، حالة من القلق المستمر. تروي بحزن: “وجود السيل يجعلنا

نعيش في قلق دائم. الروائح الكريهة تجعلنا محبوسات داخل المنزل أغلب الأوقات، وأطفالي يصابون بأمراض تنفسية بشكل متكرر، مما يزيد الأعباء علينا كأمهات وربات بيوت.”
ويؤكد السكان أن المشكلة لا تقتصر على المنازل فقط، بل تشمل كل جوانب الحياة اليومية، حيث تحولت القرية إلى بيئة طاردة للحياة بفعل انتشار الحشرات والروائح الكريهة والأمراض المزمنة.
التربة والمزروعات تحت الخطر


لم تتوقف الكارثة عند المنازل، بل امتدت لتدمر الأراضي الزراعية وتحرم السكان من مصدر رزقهم الأساسي. يقول فيصل أبو سندس، وهو مزارع يعيش بجوار السيل: “المياه العادمة أتلفت المزروعات القريبة من السيل، ورفعت نسبة ملوحة التربة بشكل كبير. نحن نزرع، لكن كل شيء يتلف قبل أن نتمكن من حصاده.”
أما إياد النمورة، مزارع آخر من المنطقة، فيشير إلى أن المشكلة أكبر مما يمكن تحمله: “السيل يقتل خصوبة التربة وينشر الروائح الكريهة. مئات الدونمات أصبحت أراضٍ جرداء، والأطفال يعانون من الأمراض بسبب هذا التلوث”. هذا الوضع دفع العديد من المزارعين/ات إلى هجر أراضيهم/ن والتخلي عن الزراعة.
السموم تختبئ في المحاصيل
ضمن سير التحقيق، استعان الفريق بدراسة بحثية تضمنت فحوصات مخبرية لتقييم تلوث التربة والمزروعات بالعناصر السامة. أظهرت النتائج أن المزروعات في منطقة “أبو العسجا” تحتوي على عناصر سامة مثل الكروم (Cr)، والمنغنيز (Mn)، والزنك (Zn)، في جميع أجزاء النباتات التي شملتها الدراسة: الجذور، السيقان، الأوراق، والثمار. تركزت العناصر السامة بشكل أكبر في أوراق النباتات مقارنة بالأجزاء الأخرى.
وأوضحت الدراسة أن معامل التركيز الحيوي لنباتات الذرة الصفراء لعنصر الكروم بلغ 0.05، وهو أعلى من معامل التركيز في نباتات الدخان الذي سجل 0.02. كما بينت أن الميكروبات الملوثة في التربة تبقى فعالة لمدة لا تقل عن خمس ساعات، ما يعني أن المحاصيل التي تُستهلك خلال هذه الفترة يمكن أن تكون ملوثة بالبكتيريا والفيروسات الخطيرة.
الدراسة تناولت أيضًا انتقال المواد الكيميائية إلى النباتات، وأجرت تحاليل للعناصر الثقيلة الموجودة في التربة. أظهرت النتائج وجود خمسة عناصر سامة رئيسية، من بينها الكروم والزنك والرصاص، وأخطرها الكروم الذي يرتبط بالأنشطة الصناعية مثل المدابغ. وفقًا للمعايير العالمية، ينبغي ألا تتجاوز نسبة الكروم في التربة 10-15 مليغرامًا لكل كيلوغرام، ولكن التحاليل أظهرت أن تركيزه في منطقة “أبو العسجا” وصل إلى 147 مليغرامًا لكل كيلوغرام، وهو ما يزيد عن الحد المسموح بأكثر من عشرة أضعاف. هذه النتائج تعكس مستوى خطيرًا من التلوث الذي يهدد صحة الإنسان والحيوان.
دور صهاريج المياه العادمة

من بين العوامل التي تفاقم الكارثة في “أبو العسجا”، استخدام صهاريج نضح المياه العادمة بشكل عشوائي. العديد من أصحاب هذه الصهاريج يقومون بتفريغ حمولاتهم في مجرى السيل دون أي رقابة أو مساءلة قانونية، مما يزيد من حجم التلوث. يقول أحد سكان القرية: “نشاهد صهاريج المياه العادمة تأتي إلى المنطقة وتفرغ حمولتها دون اكتراث. هذا التصرف يفاقم المشكلة ويزيد من تلوث التربة والمزروعات، ويؤدي إلى انتشار الحشرات والروائح الكريهة بشكل أكبر.”
هذه الظاهرة تعكس غياب الرقابة البيئية والتنظيم اللازم، حيث يتم استغلال القرية كمنطقة للتخلص من النفايات السائلة على حساب صحة سكانها وبيئتهم.
تقاعس رسمي وحلول متأخرة
ورغم خطورة الوضع، تبقى الحلول غائبة. يقول مدير سلطة جودة البيئة في الخليل، هاشم صلاح: “هناك أضرار بيئية وصحية جسيمة، لكن المشكلة الأساسية هي غياب التمويل اللازم لتنفيذ المشاريع المقترحة”. ويشير إلى أن نحو 10 آلاف دونم من الأراضي الزراعية و30 آلف شجرة زيتون، إلى جانب خمسة أطنان من المحاصيل السنوية، تتأثر سلبًا بهذه الظاهرة.
من جانبه، أوضح مدير عام الحكم المحلي في الخليل، رشيد عوض أن قضية المياه العادمة تقع تحت مسؤولية سلطة المياه الفلسطينية. لكنه أكد أن وزارته لا تستطيع التنصل من دورها، خاصة وأن مجرى السيل يمر عبر أراضٍ تابعة للهيئات المحلية من الخليل حتى المناطق الداخلية.
وأشار عوض إلى مشروع كبير قادم بالتعاون مع سلطة المياه، وهو إنشاء محطة تنقية بتمويل من البنك الدولي والحكومة الفرنسية، بتكلفة تتجاوز 50 إلى 60 مليون دولار. سيتم إقامة المحطة في منطقة الحيلة بمدينة يطا لمعالجة المياه العادمة.
وأضاف أن هناك مشروعًا آخر يتمثل في تغطية مجرى السيل كمرحلة أولى، يتبعها مرحلة ثانية لإكمال عملية السقف. وأكد أنه تم زيارة الموقع من قبل الجهات المختصة، حيث لوحظت الأضرار البيئية والصحية التي يعاني منها السكان بسبب الحشرات والروائح والأمراض
رد سلطة المياه ترد: لدينا خطة معالجة شاملة
في حديث مع المهندس عادل ياسين من سلطة المياه الفلسطينية، أوضح أن السيل يمر عبر أربع قرى، وقد تم العمل على تغطية جزء من مساره بمسافة ثلاثة كيلومترات من منطقة “رابود أبو العسجا” إلى “أبو العرقان”. كما أشار إلى أنه تم طرح عطاء لتغطية 200 كيلومتر إضافي، لكن العمل توقف بسبب الأزمة المالية الناتجة عن جائحة كورونا.
وأضاف ياسين: “رغم التحديات، كانت هناك محاولات مستمرة للحفاظ على مجرى السيل ليبقى خاليًا من الشوائب التي تعيق تدفقه.” وأكد أن الحل الجذري للمشكلة يكمن في استكمال مشروع محطة معالجة المياه في الخليل. وبيّن أن المشروع قد اكتمل بنسبة 85 بالمئة، ومن المتوقع أن يبدأ التشغيل التجريبي في حزيران/ يونيو أو يوليو/ تموز القادم، على أن تُصبح المياه التي تصل إلى السيل معالجة وصالحة للاستخدام بحلول نهاية عام 2025.
وأكد ياسين أن سلطة المياه ملتزمة بالعمل على إنهاء هذه الكارثة البيئية، مشيراً إلى أن المشروع يمثل بارقة أمل للسكان الذين عانوا طويلًا من آثار التلوث.
استغاثات بلا مجيب

في الوقت الذي يعاني فيه السكان، يقول نائب رئيس المجلس القروي غالب أبو سندس: “خاطبنا العديد من المسؤولين والمؤسسات الدولية، وتم سقف جزء من السيل قبل سبع سنوات. لكن الجزء الأكبر ما زال مكشوفًا، مما يفاقم المشكلة يومًا بعد يوم. علما أن طول السيل يبلغ ثلاثة كيلو مترات ويمر في أربع قرى مجاورة.
في المحصلة، تعيشقرية “أبو العسجا” تحت وطأة كارثة بيئية وصحية مستمرة، إذ تنتظر استغاثات سكانها حلولًا جذرية لم تأتِ بعد. السكان محاصرون بالتلوث والخوف، فيما يظل ملف المياه العادمة معلقًا دون تنفيذ فعلي للحلول المقترحة. هل يجد الأهالي في يوم قريب مخرجًا من هذه الأزمة الصحية البيئية؟
اعداد التقرير : ساري جرادات
رفيدة ابو زنيد
رنا عوينة
اشراف : فراس طويل
هذا التقرير نتاج دورة تدريبية لمجموعة من الصحافيين/ات ضمن مشروع ” الوصول العادل للموارد الطبيعية للنساء والشباب ” الذي تنفذه جمعية تنمية وإعلام المرأة ( تام) بالشراكة مع كاريتاس فرنسا و بدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية الا ان الافكار والاراء المقدمة خلاله لا تمثل بالضرورة افكار واراء الوكالة الفرنسية للتنمية.